مفهوم العنــف
إن العنف مفهوم فلسفي، وهو في ذات الوقت سلوك ونزوع واعتقاد، حيث لم يعد العنف اليوم يحدد فقط في الممارسات الجسمانية، لأن تحديد المفهوم يمكن أن يمتد إلى جميع أشكال المنع، والتأثير سواء أكانت ثقافية، أم سيكولوجية. ومن هذا المنطلق نتساءل: فيم تتمثل أشكال العنف الأساسية؟ ما هي أسباب ميلاد العنف، وتمظهراته عبر التاريخ؟ هل يمكن اعتبار العنف ممارسة مشروعة؟
أشكال العنــــــف:
من المعلوم أن الحرب تعتبر من أشد المظاهر المعروفة للعنف، حيث تستباح فيها الحرمات والأعراض علاوة عن الأشكال المتعددة من التعنيف الجسدي. وفي هذا الصدد يحدد كلوزيفيتش Clausewitzأساس الحرب في الفعل الفردي باعتباره استعمالا للقوة الجسمية من إرغام الخصم للخضوع لإرادة الفرد. وهكذا تتدخل العلوم لتوفر الوسائل للقوة حتى تتغلب عن القوة المضادة. ومن ثم أمكن القول، بأن الحرب لا تحمل حدودا ذاتية دون تدخل التشريعات والقوانين، ومهما تنوعت أشكال القوة أو تعددت، سوف تظل مجرد وسائل لتحقيق غاية تتمثل في إخضاع الخصم.
أما لورنتز Lorenz، فإنه يريد أن يبين أن السلوك الحيواني يحمل في ذاته نزوعا أصليا نحو العنف. ومع ذلك فإنه تكونت لديه تحت قانون الاصطفاء الطبيعي آليات كابحة تجعله يتجنب القتل. ذلك أيضا هو شأن الإنسان، فهو يحمل في ذاته ميلا غريزيا إلى العدوان، وذلك ما يجعل معظم الناس ينسبون إلى العقل كل ما يحول بين الفرد وتحقيق مصالحه الموغلة في الفردانية. إن هذا الاعتقاد، في نظر المفكر، يحمل صدقا نسبيا فقط، لأن المسؤولية العقلية والأخلاقية، لن تستطيع كبح دوافع القتل لو لم يكن الإنسان يمتلك في ذاته، وبشكل فطري، ميكانيزمات كابحة للعدوان والقتل.
ويعتقد بورديو Bourdieuأن هناك عنفا آخر ألا وهو العنف الرمزي. وهذا العنف يحقق نجاحا أكثر من العنف المادي. ونجاحه يعود إلى قدرته على ممارسة تأثيره على الفاعلين الاجتماعيين بموافقتهم. فالإنسان بحكم ولادته ينشأ في محيط سوسيوثقافي، فيصبح بذلك، وبشكل تلقائي، تحت تأثير مجموعة من التمثلات والمسلمات. هكذا تصبح المعتقدات المتداولة بين الناس وسيلة للتأثير اللطيف وأداة للسيطرة والتحكم دون اعتماد العنف المادي.
إن هذا التنوع الفكري في تحديد أشكال العنف، يدفعنا إلى أن نتساءل: كيف كانت تمظهرات العنف عبر التاريخ؟
العنف والتاريـــــــــخ :
يعتقد إنجلز Engelsأن العنف يرتبط تاريخيا بالتطور الاقتصادي. فأهمية الاقتصاد في التأثير على الحياة الاجتماعية تجعل العنف السياسي مضطرا للخضوع إليه. ويكفي أن نتأمل التاريخ ليتبين أنه لم تستطع الثورات السياسية، ولا أشكال الاستبداد أن توقف أشكال النمو الاقتصادي. إلا أن ذلك لا يمنع حدوث بعض الاستثناءات، والتي تتجلى، بشكل خاص، في تلك الحالات الانقلابية التي يصبح فيها العنف الداخلي للدولة متجها ضد التطور الاقتصادي، وينتهي الأمر عادة بقلب النظام السياسي السائد.
أما فرويد، فإنه يعتقد أن أهم تحول عرفه العنف تاريخيا، يتمثل في الانتقال من الاعتماد المطلق على القوة الجسمانية، إلى الاعتماد على العقل. فمنذ أن أصبح الإنسان يركز على استعمال الأسلحة أصبحت الحرب عقلية، ويكون الانتصار حليف من يملك أفضل أنواع الأسلحة. إلا أن التاريخ يشهد على الإنسان نهج مسارا آخر لمقاومة كل من العنف الجسدي والعقلي من خلال الاحتكام إلى سلطة القانون. هكذا أصبح الحق قوة جماعية، لأنه يترجم - في الحقيقة- اتحاد قوى ضعيفة (الاتحاد قوة).
إن الطرح الأخير يساعدنا على طرح التساؤل التالي : هل يمكن للعنف أن يأخذ طابع المشروعية؟
العنف والمشروعية :
يؤكد رالف لينتون R. Lintonأن قبول العنف أو رفضه، يختلف بحسب طبيعة الجماعات البشرية. لكن عندما تتدخل الجماعة في عنف الأفراد، تصبح الغلبة دائما لصالح الجماعة، ومقاومة الفرد لن تجديه نفعا، وإنما ستقوده إلى فقدان جميع الامتيازات بما في ذلك حق الانتماء..
ويؤكد كانط بدوره أن تماسك الكيان الاجتماعي لا يمكن أن يتم إلا من خلال منع أشكال المعارضة المطلقة، مهما كانت بواعثها، لأنه ليس من حق الرعية أن تلعب دور المشرع في كل وقت وحين.. وبما أن الحاكم وحده من يملك سلطة القانون والإرادة للعدالة، فهو وحده من يجب أن يقرر حتى لو اعتقدت الرعية أن يسلك خارج القانون.
أما إريك فايل E. Weilفإنه لا يعترف بشرعية العنف لأنه نقيض الفلسفة. ولكي تستطيع الفلسفة مقاومته يجب أن تتجسد اللاعنف وتستعمل هذا المفهوم بقوة. هكذا تظل الإشكالية المتجذرة في الفلسفة هي أن تسعى إلى محاربة نقيضها. فمحاربة العنف إذن هو المنطلق والنهاية، ومن ثم لا مناص أن نختار إما العنف وإما الخطاب..
كتخريج عام، لابد من التذكير بأن مشكلة العنف هي مشكلة إنسانية وجودية.. لأننا حينما نرجع إلى فلاسفة أمثال نيتشه أو هوبز، نعتقد أن العنف متجذر في الطيعة الإنسانية. وحينما نرجع إلى الأدبيات الحقوقية والأخلاقية التي تتأسس على نبذ العنف نجدها تؤكد أن حقيقة الإنسان تجسد نقيض العنف. لكن المشكل الذي يظل محيرا هو أن نلمس في بعض الطروحات خطابا مزدوجا، خطاب يدين العنف، وخطاب يشيد بممارسات تدخل في سياق العنف. كما أن التاريخ يبين أن كثيرا من الأقوام كانت ضحية العنف لكن عندما استبدت بدورها مارسته. إن أمثال هذه المواقف لا يمكن أن تبرر في الواقع لا يمكن أن تتخذ كذريعة لتبرير العنف لأنه يظل في نهاية المطاف فعلا ضد الإنسانية مهما كانت صوره وأشكاله.